الشيخ هاشمي رفسنجاني
تحتل الثورة الإسلامية في إيران مكانة مهمة جداً بين حوادث القرن العشرين. فهذه الثورة وقعت في ظروف كان العالم خاضعاً لسلطة القطبين الرأسمالي والاشتراكي، بحيث لم يوجد بلد يمكنه التحرك دون دعم ومساندة احد هذين القطبين.
وقد استقطبت الثورة الإسلامية أنظار المحللين والسياسيين والمسلمين والكثير من شعوب العالم، وطرحت هذا السؤال في أذهانهم وهي كيف استطاعت هذه الثورة دون اعتماد على قوة خارجية من إسقاط خامس أعتى جيوش العالم، وتشكيل حكومة أساسها الاستقلال ونفي كل أنواع التسلط الأجنبي؟
لاشك أن الدور الأكبر في انتصار الثورة الإسلامية يرجع إلى شخصية الإمام الخميني(قده) وقيادته الحكيمة لدفة الثورة. الإمام الخميني بشخصيته الاستنثائية استطاع بفطنته وذكائه قراراته الصائبة والحازمة مع ثلة من أنصاره المخلصين، في العبور من أحلك الظروف وأشد الأزمات وإيصال الثورة إلى ساحل الانتصار.
آية الله هاشمي الرفسنجاني الرجل الذي كان له الدور المؤثر والمحوري سواء قبل انتصار الثورة الإسلامية أو بعده.. كان من جملة الأوائل الملتحقين بركب النهضة الإسلامية، ولم يتوان لحظة واحدة من التخلف عنها.. كان في صلب أحداث النهضة، وارتبط ارتباطاً وثيقاً بقيادتها.. عاش في صلب القرارات المهمة والمصيرية.
يعتبر في الظرف الراهن احد اكثر رواة تاريخ الثورة الإسلامية وثاقة. تحدث لنا حول بعض جوانب وأبعاد شخصية الإمام الخميني القيادية.
استراتيجية المواجهة
طوال ما كان السيد البروجردي حيّاً فمعنى ذلك أن الحوزة العلمية كانت لها زعامتها، وكان الإمام الخميني حينها معروفاً كمرجع من مراجع التقليد، وكانت لديه صلاحيات كثيرة باعتباره مدرساً ناجحاً وبارعاً في التدريس، ولقوة دروسه التف حوله عدد كبير من الطلبة الجيّدين، ولعل الطلبة الذين التفوا حوله هم أكثر الطلبة مثابرة في حوزة قم العلمية. ولم يكن هناك ما هو اكثر من ذلك في تلك الأثناء.
محاربة الاستبداد الداخلي
وبعد وفاة آية الله البروجردي بدت الحوزة العلمية وكأنها خالية من الزعامة، ولم يكن الإمام حينها قد كتب رسالة عملية بعد، لكنه اضطر تحت ضغط الآخرين إلى كتابة وإصدار رسالة عملية، ولم يكن احد شاكاً في علمه وتقواه، فبدأت مرجعيته تأخذ حيّزها شيئاً فشيئاً. وقد سارع إلى انتهاز الفرص التي أتاحتها بعض الحوادث التي وقعت حينذاك، وأثبت من خلال ذلك مقدرته على قيادة العالم الشيعي ومن بعده العالم الإسلامي.
نحن نرى أنه كان ينتظر الفرصة المناسبة، وكان النظام الحاكم في إيران يومذاك يتحيّن الفرصة من بعد رحيل السيد البروجردي لغرض إضعاف الحوزة العلمية؛ لأن وجود حوزة علمية قويّة كان بمثابة حجر عثرة أمام النظام يحول بينه وبين تطبيق سياسته الهمجية.
وعلى الجانب الآخر كانت أنظار العلماء متوجهة إلى شخص الإمام للحيلولة دون إضعاف الحوزة العلمية، لكي لا يكون النظام مرتاح البال من جانب القوى الجماهيرية.
كان أوّل عمل مهم أقدم عليه الإمام الخميني في أول يوم هو أنه أدخل الحوزة العلمية إلى ميدان السياسة في أول فرصة سنحت، حيث أخذ يركز على قضايا الحكومة والقضايا الجماهيرية من خلال البعد السياسي والديني.
لم يكن رجال الحوزة العلمية متحمّسين كثيراً للدخول في هذا المجال وخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حيث انطووا من بعد واقعة المشروطة [ثورة الدستور] على أنفسهم، وتعرضوا بعد ذلك للقمع والتنكيل على يد رضا خان، إلاّ أن الإمام الخميني بادر إلى تحطيم ذلك الطلسم، وجاءت مبادرته تلك في وقتها تماماً، لأن الحوزة كانت على استعداد للقيام بهذا الدور، وكان لديه أنصار كثيرون، وكانت الظروف السياسية مؤاتية تماماً.
كان أول عمل قام به الإمام هو أنه أدخل الحوزة العلمية في مضمار السياسة، وكان ذلك عند المصادقة على ما يسمى بقوانين الأقاليم والولايات، وهو ذلك المشروع الذي مُني بالفشل؛ حيث واصل الإمام والعلماء الآخرون تصدّيهم لذلك المشروع على مدى ثلاثة اشهر ممّا اضطر السلطات للتراجع عن موقفها. نحن شعرنا أن الحكومة بعد هزيمتها أحسّت أن شخصاً أقوى منها يجب أن ينزل إلى ساحة المواجهة، ولهذا دخل الشاه بنفسه إلى الساحة وأخذ على عاتقه مهمّة مواجهة الإمام.
وفي قضية ما يُسمّى بالثورة البيضاء تصدّى الشاه بنفسه لزمام الأمور في الساحة السياسية؛ ولم تكن مقارعة الشاه في ذلك الوقت عملاً سهلاً، وكان الأشخاص الذين يأخذون بزمام مجابهة السلطة في تلك الفترة لا يتجاوزون رجال الطبقة الثالثة في الدولة، وإن كانوا أحياناً يصعّدون درجة المجابهة إلى حدّ التعرّض للحكومة، بيد أن الإمام الخميني تصدى لشخص الشاه وفي الموقع الذي اختار فيه الشاه النزول إلى الساحة. ولو لم يكن الشاه قد نزل بنفسه إلى الساحة، فلعلنا لم نكن نتمكن من الوصول إلى مجابهته بهذه السرعة؛ وهذه هي القضية الثانية التي يجب إدخالها ضمن المنعطفات المهمة في حياة الإمام.
وهكذا بدأت المجابهة، وكان هدفها الأول محاربة استبداد الشاه، وكانت القضية المهمّة في هذا المجال هي أن الإمام الخميني أضفى على تلك المجابهة طابعاً دينيّاً.
كان من الممكن حينذاك التمسّك ببعض القضايا التي كانت مطروحة على صعيد العالم الإسلامي كالقضية الفلسطينية مثلاً أو ما شابه ذلك من القضايا التي كانت ومازالت مطروحة على بساط البحث في داخل البلاد، إلاّ أن الإمام اختار لصراعه بعداً دينياً وطرح فيه واجب العلماء، وركّز على نقاط الضعف التي كان يعاني منها النظام من الناحية الدينية.
أمّا القضية الثالثة فهي أن الإمام أعطى لذلك الصراع بُعداً جماهيرياً، وركز اهتمامه على نزول الشعب إلى الساحة السياسية، إذ كانت عساكره هي جماهير الشعب، فهو لم يهتم كثيراً بالأحزاب والتيارات والشخصيات الاجتماعية البارزة في حياة البلد ذلك الوقت، وإنّما كان همّه يتركز على وضع النظام في موضع المجابهة مع الشعب، وقد نجح في مسعاه ذاك إلى أبعد الحدود. وتطورت الأمور على نحو سريع إلى أن جاء تاريخ الخامس عشر من خرداد في أعقاب عدّة وقائع مثل مجزرة المدرسة الفيضية، وسَوْق طلبة العلوم الدينية إلى الخدمة العسكرية، وما شابه ذلك من الممارسات التي لجأ غليها النظام ضد حركة الإمام.
واستفاد الإمام من فرصة شهر محرم، وهذه واحدة من خصائص الإمام الخميني، وهي انه كان يحسن استثمار الفرص التاريخية إلى أبعد الحدود، حيث استغلّ فرصة غليان الدماء في قلوب الناس بمناسبة شهر محرّم لطرح بعض القضايا المهمّة. وكان اعتقاله سبباً لأن يكون في مجابهة مع الشاه وجهاً لوجه، وقد توجّه في خطابه الذي ألقاه في المدرسة الفيضية بالهجوم على الشاه مباشرة، وهو الخطاب الذي هاجم فيه ظاهرة تقديس الشاه.
كان من الواضح أن الشاه لم يعد قادراً على التحمّل أكثر من ذلك، فاعتُقل الإمام ونزلت جماهير الشعب إلى الساحة، وكان معنى ذلك أن الإمام إذا أراد النزول إلى الساحة، فان النظام سيكون في مواجهة مع الشعب.
وقعت حادثة الخامس عشر من خرداد في وقت كان الإمام الخميني في السجن، ثم جاءت ظروف دعت العلماء إلى الهجرة إلى طهران، وهكذا تمّت تعبئة جميع الإمكانيات، إلى أن أطلق سراح الإمام إلاّ انه بقي تحت المراقبة. والهدوء الظاهري الذي شوهد بعد ذلك في البلد يعزى إلى أسلوب القمع الذي مارسه النظام.
وبعد أن اطمأنت خواطرهم إلى استقرار الأوضاع نقلوا الإمام إلى قم، وتوفّرت عند ذاك فرصة جديدة وهي أن الإمام أخذ يتطرق إلى قضية مهمّة كانت موجودة في البلد، وهي قضية الاستعمار وخاصّة التسلط الأمريكي.
كنّا إلى حين تلك اللحظة في حالة مجابهة مع الاستبداد الداخلي. وكانت هناك أيضاً توجّهات معادية للاستعمار، بيد أن حدّ السيف كان موجّهاً نحو الداخل. ثم إن هذه الفرصة تبلورت أكثر حين اتضح أن النظام كان أثناء أحداث الخامس عشر من خرداد وما سبقها وما تلاها بحاجة إلى الدعم الأمريكي؛ فحينما نزل الشعب إلى الساحة، كان على حماة الشاه أن ينزلوا إلى الساحة أيضاً، وكان لابد أن يظهر كل شيء علانية، وكانت هذه هي رغبتهم، حيث كثر وجود المستشارين الأمريكيين في الجيش، وفي قطاع النفط، وفي جهاز السافاك، وفي القطاعات الفنية الأخرى.
محاربة الاستعمار الخارجي
لم يكن الأمريكيون يرغبون بتقديم العون بدون أن يكون لهم حضور في البلاد، وأخذوا يفكرون بترتيب الأوضاع في إيران بالشكل الذي يمهّد لحضورهم، فطرحوا على اثر ذلك ما يسمى بقانون الحصانة (الكابيتالاسيون).
ونتيجة لتلك الظروف استجدت فرصة أخرى للإمام الخميني. أُذيع خبر مصادقة المجلس على ذلك المشروع على نحو غامض، وجئت حينها إلى طهران وبقيت فيها ـ كما أمرني الإمام ـ ثلاثة أيام، وحصلت عن طريق السيد فلسفي والسيد طليعت والسيد البهبهاني على معلومات مهمّة حول تصويت المجلس على ذلك المشروع وطبيعة النقاشات التي حصلت؛ لأن المعارضين للمشروع طرحوا آراء مثيرة حول الموضوع، وجمعت كل تلك المعلومات وقدّمتها للإمام.
قال الإمام الخميني حينذاك إننا سنفضح أمريكا أمام الملأ، ونتصدى لها. وهكذا بدأت حملة مجابهة قانون الحصانة (الكابيتالاسيون)، وشرعت أول الأمر بالخطابات والكلمات؛ وكان لدى الإمام خطبة شاملة لهذه الغاية، إلاّ أن النظام اطلع عليها على ما اعتقد، فسارع إلى نفيه.
كانت خطّة الإمام هي انه كتب رسائل وبعث بها إلى علماء البلاد طلب فيها أن يتجمهر الناس في كل أرجاء البلاد ويبدأوا بكتابة الطوامير لكي يبدأ التحرّك الجماهيري المنسق من جميع أرجاء البلاد ضد الشاه وضد أمريكا، بدلاً من أن يكون الاعتراض موجهاً من قم إلى طهران، على أن يكون محور المجابهة هو محاربة قانون الحصانة.
بدأ الإمام بتنفيذ تلك الخطة، وبعث تلك الرسائل، إلاّ أن السلطات علمت بمجاري الأمور وسارعت إلى اعتقال الإمام. غير أن هذا الاعتقال نفسه ساعد الإمام على إيجاد تيار لمحاربة أمريكا على المدى البعيد، لأن أمريكا هي التي كانت مسؤولة منذ ذلك التاريخ فصاعداً عن نفي الإمام، وبخاصّة أنّه نُفي إلى تركيا، ومن الواضح أن تركيا لم تكن توافق على استضافة الإمام على أراضيها لولا وجود أوامر من أمريكا.
أمّا الشيء المهم الذي حصل خلال تلك الفترة القصيرة التي لم تستمر سوى بضعة أيّام، فهو أن حلقة مكافحة الاستبداد قد اكتملت من خلال إضافة مكافحة الاستعمار والتسلّط الأجنبي إليها، حتى تحوّلت تلك المجابهة في ذروتها إلى خليط من القضايا الداخلية والخارجية والدولية.
من الواضح أن فكرة نقل المجابهة من الصعيد المحلي إلى الصعيد الدولي كانت مختمرة في ذهن الإمام، حيث كان يصرّح أن هذه القضية تتعلق بالعالم الإسلامي بأسره، ومن هنا فهي ذات صلة بجميع القضايا الأخرى. وهذا أيضاً بُعد آخر من المواقف التي اتخذها الإمام في المنعطفات المهمّة، ويمكن اعتباره من جملة معالم ذكائه وفطنته.
خرج الإمام من ساحة المجابهة الداخلية بعد أن نُفي إلى مدينة غرب تركيا اسمها بورسا، ولم تكن لديه أيّة وسيلة للاتصال بنا. كان يزوره بين الفينة والأخرى بعض الأشخاص لأجل التحية، ولكن تحت رقابة صارمة من رجال السافاك. كانوا يستهدفون قطع علاقة الإمام مع القوى الثورية ونجحوا عملياً في تحقيق تلك الغاية إلى حدٍّ ما. حيث كانت هناك فترة فراغ ملحوظة في بروز الإمام إلى أن شرع بتأجيج المجابهة من جديد من منفاه في النجف وفي باريس.
لماذا وقع اختيار الإمام على باريس؟
قد كنت حينها في السجن، ولم أستطع أن أصدّق ما كان يجري؛ كانت الأخبار خلال تلك الفترة تصلني بواسطة الأشخاص الذين كانوا يأتون لمقابلتي في السجن، وكنّا نعلم على نحو الإجمال أن الثورة بلغت ذروتها في أعقاب استشهاد السيد مصطفى الخميني في النجف الأشرف، وأن رسائل الإمام أخذت تتواصل من النجف، وأن سماحته قد كسر حالة الفتور وتحرك بشكل واسع وفاعل.
في تلك الفترة اتفق النظامان الإيراني والعراقي على عدم بقاء الإمام في النجف، فكان على الإمام أن يأتي إلى إيران، وكان النظام يخشى قدوم الإمام إليها، على اعتبار أن مجيء الإمام سيؤدي إلى خلق مشكلة في إيران التي كانت تعيش آنذاك أجواءً سياسية منفتحة. فكانوا يتصورون أن الإمام إذا أراد الهجرة، فليس أمامه إلاّ الهجرة إلى أحد البلدان العربية أو الإسلامية كتركيا مثلاً، وكان ذلك كله هيّناً على النظام.
لم أكن حينها على علم بمجريات الأمور، لكنني اطلعت عليها لاحقاً. كان الإمام يرى انه إذا أخرج من العراق ولم تسمح له إيران بدخول أراضيها فانه سيتجه نحو الكويت المحايدة للعراق، إلاّ أن الكويتيين خافوا ولم يسمحوا للإمام بدخول الكويت مع انه كان قد وصل إلى الحدود.
في أثناء عودة الإمام من الحدود الكويتية، عرضت فكرة الذهاب إلى باريس. هذا هو ظاهر الأمور، أمّا باطنها فيجب النظر إليه على نحو آخر. وعلى كل حال فقد هاجر الإمام إلى باريس، وكان اختياره لها صائباً. وهذه هي النقاط التي نبحث عنها باعتبارها تمثل واحدة من خصائص القائد.
لم يكن الإمام في الفترة التي ذهب فيها إلى باريس قائداً سياسياً، وإنّما كان مرجع تقليد؛ وكان من الممكن أن يجلب عليه ذهابه إلى باريس مكائد إعلامية ماكرة؛ فكان من الممكن أن يقال من أجل خداع الناس البسطاء: لماذا ذهب إلى باريس ولم يذهب إلى سوريا مثلاً ليكون إلى جوار ضريح السيّدة زينب(ع)؟ أو لماذا لم يذهب إلى مكة أو إلى المدينة؟ وكان من الممكن أن تثار هذه المؤاخذات ضدّ أي موضع آخر يذهب إليه.
وعلى كل الأحوال فقد تصرف الإمام على نحو بيّن فيه للجميع انه أراد الذهاب إلى الكويت ولكن لـم يفسـحوا له المجال، ولم يكن أمامه من سبيل سوى التوجّه إلى باريس. ثم إنه في باريس انتهج أفضل السبل، ولا داعي للدخول في التفاصيل الجزئية لأمثال هذه القضايا، لأن اللقاءات والمباحثات مدوّنة في الوثائق والنصـوص التاريخية، ويمكن لمن يريد، الاطلاع عليها في مظانّها.
لقد اتخذت التظاهرات والمجابهة السياسية في إيران بُعداً جماهيرياً في ذلك الوقت؛ ممّا أثار حفيظة الأوساط الاستعمارية وخاصّة أمريكا وبريطانيا من التطورات الجادّة التي كانت تجري في إيران، وأخذت وسائل الإعلام العالمية تركّز على مجريات الأحداث بكل اهتمام. لقد كانت مجابهة حادّة بين الشرق والغرب؛ كان للشيوعيين وللتيارات السياسية الأخرى نفوذ فاعل في أجهزة الإعلام، وكانت الأدبيات الماركسية الثورية تهيمن على معظم الأجهزة الإعلامية، ولم يكن وجود الإمام يسمح بإخفاء الأمور عن الرأي العام، لأنه استغل فرصة وجوده القصيرة هناك وأعلن للعالم كل ما لديه من آراء.
من جملة الإشكالات المثارة ضد نظام الشاه هي سعة الهيمنة الأمريكية على الشؤون الإيرانية، حتى إن الغربيين يصفون تلك الهيمنة على نحو لا يدع مجالاً للشك في حقيقتها.
لقد وجّه الإمام ضغوطاً شديدة للمصالح الغربية، حتى إنني حينما أقرأ في الوقت الحاضر بعض تصريحاته أؤيدها من كل قلبي؛ لأن ظروف ذلك الوقت كانت تستلزم وجود مثل هذه القيادة التي تستطيع أن توصل كلامنا من باريس إلى العالم؛ فقد اطّلع العالم من هناك على الأفكار الإسلامية وعلى النقاط البارزة في فكر الإمام. ومن المثير أنّه كان يؤكد في كلامه على الدوام بأنه يريد الذهاب إلى إيران لكن السلطات لا تأذن له بدخول إيران، ولم يشر في كلامه ذاك إلى المخاطر التي تهدد حياته أو إلى الضمانات الأمنية لسلامته! وكان يردد بين الفينة والأخرى أنه سيكون بين أبناء الشعب متى ما سمح له النظام بدخول إيران.
سادت في إيران فترة من الهدوء في المجابهة المسلحة، بدأت منذ عام 1346 [1967م] فصاعداً. ولم يفكر الإمام الخميني قطّ في مجابهة مسلّحة تفتقد إلى العنصر الجماهيري، بل كان أكثر ما يركز على المجابهة الشعبية.
الثقة بالله وبالشعب
أجل، هذا واحد من أبعاد شخصية الإمام. كان يقول إن المجاميع المؤلّفة من مائة أو مائتين أو خمسمائة شخص لا يمكنها إسقاط النظام، أمّا إذا أراد الشعب فانَّ بإمكانه أن يفعل ما يشاء. وبما انه سار على تلك الستراتيجيّة فحتى إن مجيئه إلى طهران كان يحسب فيه حساب الجماهير.
قد لا يصدق المرء أن تصريحات الإمام برغبته في العودة إلى إيران كان جادّة؛ لأن زمام الحكم كان لايزال بيد النظام البهلوي، وكان الجيش موالياً لذلك النظام على الظاهر، وكذلك الشرطة. ونحن في الداخل لم تكن لدينا إمكانيات أمنية كفيلة بتوفير الحماية للإمام، وكان من الواضح أن وضع الثورة مرتبط إلى حدّ بعيد بوجوده، حتى إن الأشخاص الذين كانوا يتصورون أنفسهم عقلاء كانوا يقولون إن الإمام يجب أن لا يأتي في مثل هذه الظروف؛ فهو حالياً يوجّه مسير الثورة من الخارج ويجب عليه أن يصبر لحين سقوط النظام، ليتسنى له عند ذلك العودة إلى البلاد وتوجيه الثورة من الداخل. وهذا الجانب الذي نتحدث عنه كان من الممكن أن يؤدي إلى إيجاد شكوك في قلوب الناس؛ إذ كيف يمكن لمن يدّعي حبّ الشعب والعمل في سبيلهم أن يمتنع عن الحضور بين صفوفهم فيما إذا وافق النظام يوماً على مجيئه. من المؤكد أن تساؤلاً جادّاً كان سيُثار حول الموضوع فيما لو كان الإمام قد امتنع عن المجيء، إلاّ انه لم يترك لمثل هذا التساؤل أن يثار. والحقيقة هي أن قلوبنا كانت تخفق جميعاً حينما كانت الطائرة تقلّ الإمام متوجهة به إلى طهران؛ لقد كان مسير الطائرة محفوفاً بالمخاطر حيث توجد على هذا المسير إسرائيل ودول مناهضة أخرى تعتبر من أصدقاء الشاه، وفي المطار عندما حطّت الطائرة لم نتسلّمه نحن وإنّما تسلّمه مسؤولو المطار؛ وكانت هناك أشياء أخرى كثيرة كان من المحتمل لها أن تقع. وهكذا ثبت توكّله وحزمه الجاد؛ فهو كان يقول لي على الدوام انه لا يريد الانقطاع عن الشعب لحظة واحدة.
الحقيقة هي أن عودة الإمام إلى إيران بعثت الرعب في قلوب الأمريكيين والغربيين ونظام الشاه، إذ إنّها تنمّ عن اعتماد وثقة بالمساندة الشعبية؛ فالإمام كان يعوّل على الله وعلى الشعب. أمّا الأعداء فلا أدري كيف كانوا يفكّرون، ولكن الواقع هو انهم خافوا كثيراً. وفي تلك الفترة كانت هناك مفاوضات وشيكة؛ كان بختيار وأعوانه كاللواء مدني وأمير انتظام وغيرهما يجرون معه مفاوضات مستمّرة، وفهمنا ما كان يعتمل في نفوسهم. ومن بعدهم بازركان وحركة الحرية.
كان أعوان بختيار على درجة عالية من السذاجة ولم يستطيعوا إخفاء الأخبار الداخلية؛ ومعنى هذا أن قرار الإمام بالعودة إلى إيران كان قراراً مصيرياً بعث الرعب في قلوب الأعداء من جهة، وشدَّ من عزيمة القوى الثائرة في الداخل من جهة أخرى. والنقطة الأخرى هي أن الإمام أعلن في بهشت زهراء [جنّة الزهراء] قبل إعلان الأحكام العرفية انه هو الذي سيعيّن الحكومة! وكان هذا أول خطاب له مع انه دخل إلى إيران بموافقة الحكومة التي لازالت مسيطرة على مقاليد الأمور.
من الطبيعي أن الشعب كان موجوداً في الساحة السياسية؛ وكان في إعلان الإمام عن عزمه على تشكيل الحكومة نقطتان في غاية الأهمية، هما: انه لم يكن يكتفي بدوره كمرجع تقليد وعالم دين، بحيث يقول للناس من بعد انتصار الثورة أن يشكلوا الحكومة بأنفسهم، بل قال انه هو الذي يعيّن الحكومة. وقد تبلور لاحقاً مراده من هذا الكلام العادي من خلال إجراء الاستفتاء العام وتشكيل الجمهورية الإسلامية. والنقطة الثانية هي أن الحكومة التي جاء الإمام بإذن منها كانت تتصور انه لن يتدخل في شيء من الأمور.
لقد أحسن الإمام استثمار فرصة الخطاب الذي كان العالم كله يستمع إليه، ووضع نصب عينيه فيه كل ما يحتمل أن يدور في خلد الناس. ثم توجه إلى مدرسة [الرفاه] ليختار من بعد ذلك الموضع المناسب لإقامته.
أرسل لنا من باريس خبراً يريد فيه أن نختار له مكاناً للإقامة يكون إلى جنوب شارع (شاه رضا) الذي سُمّي في ما بعد بشارع الثورة، ولم يكن من السهولة أن نجد له في ذلك الوقت مكاناً آمناً في جنوب المدينة. وكانت لدينا مدرسة الرفاه أو مدرسة علوي التي تتكون من بناية عادية تكفي قذيفة واحدة لهدمها. ولكننا مع ذلك أخذنا البعد الجماهيري بنظر الاعتبار.
قرار حاسم
كنّا أمام خياري الموت والحياة فاختار لنا الحياة. فحينما كنّا على مشارف الثاني والعشرين من بهمن كانت لدينا مفاوضات مع ممثلين عن الحكومة، حيث كان الإمام يؤكد وجوب استقالة الحكومة، وأن ينهض هو بمهمة تشكيل حكومة جديدة، بينما كان ممثلو الحكومة يؤكدون أن حكومتهم قانونية وان الإمام يجب أن يقدّم ما لديه من مطالب ليتمّ تنفيذها.
وحينما كانت الأوضاع تجري على هذا المنوال، أخذت قطعات من القوات المسلحة تنضم إلى الإمام شيئاً فشيئاً وكان من جملتها مجاميع كبيرة من القوة الجوية، وأفراد كثيرين من القوات الأخرى على نحو متفّرق. وعندها أدركت الحكومة أن الحالة إذا استمرت على هذه الشاكلة طويلاً فإن الأوضاع ستنهار.
وفضلاً عن كل ذلك، أخذت الوزارات تمنع الوزراء من الدخول إليها، وأصبحت الوزارات بلا وزراء، وربّما كان الشخص الموجود فيها يأتمر بأمر الإمام، وبدأ بعض المدراء بتقديم استقالاتهم. ومعنى هذا أن النظام كان يسير نحو الانهيار. وهكذا وجدت الحكومة نفسها في وضع حرج وكان عليها اتخاذ القرار النهائي.
أمّا بالنسبة إلى الإمام فقد كان لديه متّسع من الوقت؛ وبدا لنا أن الأوضاع إذا استمرت على هذه الشاكلة فلن يتبقّى للنظام شيء. ولو أن الحكومة لم تعلن الأحكام العرفية لما أقدم الإمام على اتخاذ إجراء حاسم. لا أدري تماماً، ولكنني أقول لعله لم يكن ليقدم على اتخاذ إجراء حاسم.
كانت هناك قضية جادّة مطروحة على بساط البحث في أوساط النظام حيث كان بعض دعاة العنف يقولون انه من الأفضل لنا أن نقوم بمذبحة واسعة لنكون بعدها مرتاحي البال مدّة طويلة. بل كان البعض يقولون وهل هناك ضرر في أن نخّرب طهران برّمتها، ثم نبني طهران جديدة أفضل منها؛ حتى أن البعض منهم كان يتحدث عن قصف واسع وعن مجزرة عامّة لأهالي طهران في الشوارع، وما شابه ذلك، إلاّ انهم لم ينجحوا عادة في اتخاذ مثل هذا القرار.
وخلاصة القول هي أن الحكومة لما رأت أسسها آيلة إلى الانهيار، وبعد تغلّب الفكرة الداعية إلى استخدام أسلوب العنف، قررت انتهاج هذا الأسلوب. ولأجل تنفيذ ذلك، كان لابد لهم من إعلان الأحكام العرفية وإنزال قواتهم إلى الشوارع والبدء بضرب مراكز القوّة الجماهيرية. وبعد أن تأكّدت صحّة ذلك الخبر اتخذ الإمام والشخصيات البارزة في الثورة قرارهم في الوقت المناسب. ولكن من أين بدأوا؟
بدأوا بإصدار بيان أعلنوا فيه دعمهم للقوى العسكرية التي انحازت إلى جانب الثورة، مع إدانة لهجوم الحرس الشاهنشاهي على بعض قوات الجيش، إضافة إلى ذكر بعض القضايا، وأبلغوا الشعب بعدم الانصياع للأحكام العرفية.
وأعتقد أن السطر الأخير الذي ورد في البيان يعكس مدى صلابة وثقة القائد بنفسه بحيث انه يعلن للشعب بسطر واحد وبأسلوب هادئ أن لا يذهبوا إلى منازلهم. ثم انه ماذا سيفعل لهم لو انهم ذهبوا إلى منازلهم؟
لقد كان ذلك القرار قراراً مهمّاً، ولو أن الناس لم يمتثلوا لأمر الإمام لامتلأت الشوارع بالدبابات والأسلحة الأخرى. وأعتقد أن الإسرائيليين والأمريكيين وغيرهم هم الذين كانوا يمتثلون للأوامر في تلك البرهة، لأنه كان من المستبعد جداً أن ينفذ أفراد الجيش والشرطة الأوامر القاضية باستخدام العنف ضد الشعب، وإنّما كان على الحكومة أن تأتي بأشخاص من أماكن أخرى لتنفيذ تلك الأوامر. ومع انهم أعلنوا الأحكام العرفية، ولكن لم يكن من المؤكد انهم سينجحون في إجراءاتهم تلك، لأنهم سبق وان أعلنوا الأحكام العرفية مّرات عديدة ولم ينجحوا فيها، إلاّ أن يكونوا عززوا قرارهم هذه المرّة بالعزم على ارتكاب المذابح.
وفضلاً عن كل ذلك فان الإمام كان حينها في باريس، ولو انهم طبّقوا الأحكام العرفية لما استطاعوا إلحاق أيّ ضرر به. كان بإمكانهم هذه المرّة إخماد مركز الثورة على وجه السرعة. كان وضع الحكومة العسكرية خطيراً للغاية، وكان إفشالها مدعاة لزرع اليأس في قلب النظام من الاستمرار في الحياة، لأنها تمثل حربته الأخيرة ولم يكن لديه أيّ سلاح آخر بعدها. هذا إضافة إلى ما كان يشعر به الموجودون في الداخل من قلق وانهيار، فجاء قرار الإمام ليثّبت قلوبهم، وقد التقينا بالكثيرين منهم ولاحظنا انهم تغّيروا كثيراً بين ليلة وضحاها. وعلى كل حال فإننا نعتبر هذا القرار قراراً هامّاً اتخذه الإمام في أحرج مراحل هذه الحركة.